كيف يمكن أن نقول عن "المرحوم" "الله يرحمه"؟
هل يمكننا مطالبة السُلطات بالإفراج عن سجين قد تمّ إطلاق سراحه؟ بالطبع لا. ولكن معظمنا يعطي للمُتوفى شهادة "مرحوم"، وفِي نفس الوقت يتمنى أن يرحمه الله، وهذا ما يتنافى مع المنطق. فإن كان مرحومًا، فلا حاجة لطلب الرحمة له، وإن لم يكن، فحتى متى نطلب أن يرحمه الله؟ هل حتى يطبق ثلاثة أيام بعد الوفاة، أم تسعة، أم أربعين، أم نصف سنة، أم سنة، أم نكرر الطلب كلما سحنت الفرصة في كل سنة وإلى الأبد؟ لا يُعقل لأن يكون الأمر هكذا.
إضافة لذلك غالبًا ما نعطي للمُتوفى شهادة "حُسن سلوك"، فنؤكد أنه "أتمّ واجباته الدينية" والبعض يضيف المجتمعية أيضًا، وهذه الشهادة لا تُعطى له وهو حيًا، فما دام على قيد الحياة فحتمًا لم يُنجر بعد واجباته، وكأن الأمور تتغير بطريقة سحرية لحظة وفاته، ولا يهم ما فعل، فالجميع يحصل عليها، لأنها جُملة تُكتب وتُقال وليس لها أية معايير قياس. ومن يُفكر لحظة يستنتج أنه توجد في مكان ما قائمة كأنها مُنزلة، مسجلّ فيها مجموعة أمور على المُتوفى أن ينجزها في حياته، وكأنه تتم مراجعة هذه القائمة وتوضع إشارة "Ö" بجانب كل بند فيها تأكيدًا أن الأمور قد أنجزت وفقًا للمطلوب، مع العلم أنّ أحدًا لم يٌفلح حتى اليوم في الاطلاع على بنود هذه القائمة وكأنها محفوظة في خزنة سرية، أو كأنها تتمتع بالمرونة السحرية لتلاءم كل مُتوفى مهما كانت تصرفاته وحياته.
إذا افترضنا وجود قائمة واجبات دينية مُلزمة للتطبيق، فإني استغرب كيف وعد الرّب يسوع وهو على الصليب اللص التائب بأن يكون معه في الفردوس، مع أنّ هذا اللص لم يُنجز أيًّا من واجباته الدينية، بل أنجز قائمة شرور وأعمال اجرام عديدة. فاستنتج أن الحاجة إلى شيء واحد لنيل الحياة الابدية، أن تتوب من كل القلب وتعترف من كل الفم بالرّبّ يسوع مخلصًا وفاديًا فتكون من المرحومين، بل تصير من أولاد الرّبّ المباركين، دون حاجة لتَلاحّم الآخرين عليك.
فيما يلي مجموعة تأملات قصيرة تضفي بعض التوضيح وإن كان فيها بعض الإعادة لزيادة الفائدة:
الله يرحمه
أومن بمراحم الرب وبرحمته لكل خَائِفِيهِ.
عندما تقول "الله يرحمه" في حديثك عن غائب حيّ، فهذا دعاء جميل وكتابي. أما عندما تقول "الله يرحمه" في التعزية بحديثك عن غائب ميت، فهذه العبارة خطأ شائع ولا أساس كتابي لها، فالميت إما أن يكون الله قد "رَحمه" قبل موته إذ قبل خطة الرّب لخلاصه وهو حيّ، وإما أن يكون قد مات بخطاياه فلا رحمة له بعد الموت إن لم يطلب الرحمة الإلهية وهو حيّ.
"فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الجَحِيمِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ" (لوقا16: 22و23)
نحتاج صحوة ضمير لنعتبر. لنستعد للقاء الرب. لننتهز الفرصة.
الرحمة تجوز...
الرحمة تجوز فقط على الحيّ، ولا تجوز على الميت.
"الله يرحمه" خطأ شائع، وعبارة مُضِلة، إن كان القصد من خلالها أن باب الرحمة مفتوحٌ للإنسان بعد الموت.
"الله يرحمه" أو "الله يرحمك"، دعاء جميل يقارب الصلاة، إذا كان المقصود به طلب رحمة الرّب وخلاصه لإنسان حيّ مهما كانت خلفيته.
"وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ." (لوقا18: 13)
"صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا. لكِنَّنِي لِهذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ." (1تيموثاوس1: 15 و16).
المرحوم
معظم الناس في معظم الديانات والطوائف والمجتمعات تطلق هذا اللقب على كل من فارق الحياة، وقد يكون ذلك من دافع الاحترام أو الرجاء أو العادة أو التقليد.
وبعد إطلاق اللقب، ومن لحظة الفراق تبدأ الصلوات باختلاف تنوعها وألحانها طلبًا للرحمة للمرحوم. أليس في ذلك تناقضًا. فإما أن يكون "مرحومًا"، أي قد رحمته السماء وانتهى الأمر، وإما أنه لم يحصل على الرحمة.
هذا الأمر خطير جدًا، إذ نأخذ مكان الله في الحكم والقرار، وهو أمر مرتبط بالمصير الأبدي، والاستهتار به إلى هذا الحدّ قد يؤدي لاستهتار الكثيرين بمصيرهم الأبدي. تخيّل أن نُطلق جزافًا على كل من يقف أمام المحاكمة بريئًا. إِذًا أين العدالة؟!
الكتاب المقدس يُعلمنا أن الرحمة تحصل لمن يطلبها مؤمنًا بعمل المسيح على الصليب، إذ احتمل القدوس البار دينونة السماء العادلة بديلًا عني وعنك، لننال الخلاص والرحمة من لدُنه.
"وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ. الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْبًا، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ." (1بطرس2: 9و10).
متممًا واجباته الدينية
غالبًا ما تكون هذه العبارة جوهر رسالة النعي، وكأنها تشير إلى أن تتميم الواجبات الدينية هي وسيلة الخلاص، وبطاقة الدخول للسماء، وكأن خلاص الإنسان مبني على أعماله. في حين أن كلمة الله تعلمنا أن الخلاص يكون بالإيمان بعمل المسيح على الصليب وليس للأعمال أي دور فيه، فاللص الذي دخل الفردوس لإيمانه بالرّب وهو على الصليب، لم يتمم واجباته الدينية، بل تمم الشرط الوحيد للخلاص: آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص. ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ». (لوقا23: 42و43).