المسيحيون ونظريّة الحرب المقدّسة

يرفض المسيحيون الحروب ولا يعملون من أجلها. وإذا حصل ووقعت الحروب، فإن على المسيحيين أن يصلّوا ويعملوا بقوة على وقفها
17 مارس 2018 - 01:12 بتوقيت القدس

المسيحيون ونظرية الحرب المقدسة

يرفض المسيحيون الحروب ولا يعملون من أجلها. وإذا حصل ووقعت الحروب، فإن على المسيحيين أن يصلّوا ويعملوا بقوة على وقفها. وأثناء ذلك عليهم أن يصلّوا من أجل حماية الله لجميع الناس المتورطة حكوماتهم في الحروب (فيلبي 6:4-7).

صحيح أن الله يسمح بالحروب، ومع ذلك فإنه "لاَ يَتَبَاطَأُ الرّب عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ." (بطرس الثانية 9:3). ينتظر الرّب عودة الناس إليه بالتوبة والإيمان.

لا يوجد أساس كتابي لإصطلاح "الحرب المقدَّسة" الذي تمت صياغته في القرون الوسطى. فلا يعقل أن تكون حرب تسفك فيها دماء، وتدمر مدن وقرى، ويشرد أفراد وجماعات، ويتم فيها سلب ونهب ممتلكات الآخرين، ثم نطلق على هذه الأعمال كلمة "مقدَّسة". حتى لو كانت الحرب بسماح الله أو بطلب من الله، فإن هذا لا يجعلها حرب مقدسة.

كذلك لا يوجد شيء اسمه "حربٌ مقدّسة"، لأن هذا يعني ضمنيًا وجود شيء اسمه "حربٌ نجسة أو مدنّسة"، وهذا مجرد خداع للنفس وللغير. الحرب هي الحرب، مهما كانت الأسباب. والحرب تعني الموت والدمار واللوعة واللجوء والسبي والنهب والإغتصاب وتدمير ممتلكات الناس. وبالتالي لا يمكن القول بوجود شيء اسمه "حرب مقدسة". زد على ذلك بأن من يدعي أنه يخوض حربًا مقدسة، فإن الخصم الذي تشن عليه هذه الحرب يسميها حربًا عدوانية، أي أنها نجسة.

نقرأ في الكتاب المقدس عن حروب كثيرة خاضها المصريون والبابليون والفنيقيون والمؤابيون والعمونيون والأشوريون والكلدانيون والفلسطينيون القدماء. وبالنسبة لهذه الشعوب فإن حروبها تمت برعاية آلهتها، وبالتالي إن أخذنا بمبدأ أو نظرية "الحرب المقدسة"، فإن حروب هذه الشعوب كانت حروبًا مقدسة بالنسبة لهم. أي أنّه لا يمكننا تطبيق تعريف الحرب المقدسة على شعب الله القديم، وعدم تطبيقه على الشّعوب الأخرى. وعليه يجب علينا كمؤمنين مسيحيين أن نرفض كل أشكال الحرب، بما في ذلك ما يسمّى "الحرب المقدّسة أو العادلة".

تشير القداسة إلى حياة بلا خطية، أي إلى حياة مكرَّسة بالكامل لله. والحرب تشمل الخداع والقتل وسفك الدماء والنهب وسلب خيرات الشعوب. كما وتشمل في أحوال كثيرة اغتصاب النساء والأطفال. أي أن الحرب تشمل أشكالًا لا حصر لها من الشر والخطية، وبالتالي لا يمكن أبدًا أن نجمع بين كلمتي "حرب" و "قداسة" معًا في عبارة واحدة. فالحرب جريمة وقتل، والقداسة بر وطهارة.

كل أجيال الجنس البشري اختبرت الحروب، وعرفت طبيعة الحروب:

• الحرب شر يدمر حياة البشر جسديًا وشعوريًا ومعنويًا.

• الحرب لعنة ومنبعها شهوة القوة والمال والمركز والسلطة والتملك، وهذه الشهوات شريرة بطبيعتها، وتتفق تمامًا مع إرادة الشيطان في موت الناس ودمار الحياة.

• الحرب خطيّة تدمر الحياة، وتدمر الأسر والعائلات، وأكثر ضحاياها الأبرياء.

• الحرب كارثة تؤدي إلى دمار مادي، وإلى عذاب نفسي وروحي وعاطفي وشعوري.

• الحرب جنون جماعي.

• الحرب في النهاية هي موقف روحي وأخلاقي يناقض إرادة الله في العمل من أجل السّلام والمحبّة والمصالحة بين النّاس.

• الأنانية والغيرة والحسد والخبث والكراهية والمرارة والغل والحقد المستوطن في أعماق الإنسان يظهر على حقيقته وقت الحروب.

• ونفس المشاعر تظهر وتنتشر وتسود عندما نقف صامتين في وجه الحرب والقتل والاغتصاب والإحتلال.

المسيحيون الأوائل: لم يشارك المسيحيون الأوائل في حروب الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الميلادي الأول ومعظم القرن الميلادي الثاني. حتى في القرن الثالث، كان عدد كبير من المسيحيين يرفضون الإنخراط في جيش الامبراطورية الرومانية. والذي حصل هو العكس، فعندما كان يؤمن أحد الجنود، كان ينسحب من جيش الامبراطوري. وقد تم إعدام عدد كبير من الجنود الذين رفضوا الإستمرار في الخدمة العسكرية بعد أن آمنوا بالرّب يسوع المسيح. ونعرف من كتب تاريخ الكنيسة بأنّ الإضطهاد العاشر ضد الكنيسة، والّذي وقع بأمر من الإمبراطور ديوكليتيانوس سنة 303، كان أصلًا بسبب رفض المسيحيين الإنخراظ في جيش الإمبراطورية الرومانية، وكذلك بسبب هروب جنود كثيرين من الخدمة العسكرية بعد إيمانهم بالرّب يسوع.

كتب غالبية آباء الكنيسة في القرن الميلادي الثاني والثالث بقوة ضد الحرب، وضد الانخراط في الجيوش، وضد كل أشكال العنف والقتل، كما نجد في كتابات كل من: الشهيد يوستينيوس أو جستينيوس (ولد سنة 100م – وتوفي سنة 165م) . وأيرينيوس أسقف ليون في بلاد الغال (فرنسا اليوم) (ولد سنة 130م وتوفي سنة 202م ). وكوينتس ترتليانوس (ولد سنة 155م وتوفي سنة 240م). وكليمنت الإسكندري (ولد سنة 150م في أثينا وتوفي سنة 215م في أوروشليم).وغيرهم من اللّاهوتيين والكتّاب والقادة الرّوحيين الّذين ظهروا في زمن الكنيسة الأولى. 

كذلك لم يتطوع أي مسيحي في الجيش الرّوماني نهائيًا في القرن الأول والثاني الميلادي. ولا يوجد في سجلات الإمبراطورية الرومانية إسم لأي مسيحي انخرط في جيش روما طوال القرن الميلادي الأول أو الثاني. فالأخلاق المسيحية كانت وما تزال ضد الحرب بشكل مطلق. وقد علَّم الرّب يسوع ضد الانتقام أو مواجهة الخطأ بالخطأ والشر بالشر.

وقد رفض المسيحيون الحرب لأن الرّب يسوع علمهم طريق المحبة والسلام. فالمسيحي الذي يعيش حقًا بحسب تعاليم الرّب يسوع يحب أعداءَهُ (متى 43:6)، ولا يقاوم الشر بالشر (متّى 39:5)، ولكنه يغلب الشّر بالخير (رومية 21:12)، ويعمل الخير من أجل جميع النّاس (غلاطية 9:6-10). والمسيحي لا يقتل (متّى 21:5-22)، بل يبشر بإنجيل الحياة لكل الناس (مرقس 15:16).

وسبب آخر في رفض المسيحيين الأوائل للإنخراط في الجيش والحروب كان رفضهم لممارسات عديدة في الجيش. فمثلًا كانت رموز الجيش وثنية، وكان الجنود يقدمون ولاءهم لقيصر روما وليس للرب يسوع المسيح وملكوت الله. كذلك كان يطلب من الجنود تنفيذ عقوبة الإعدام على الأسرى أو الثوار مثل صلبهم أو ضربهم بالسيف. وقاوم المسيحيون هذه الممارسات بشدّة.

ويمكن تلخيص أسباب رفض المسيحيين للخدمة العسكرية، كما وردت في كتابات آباء الكنيسة، في النّقاط التّالية:

1. رفض القتل خضوعًا لسلطة الوصايا العشرة، والتي يأمرنا الله فيها قائلًا في الوصية السادسة: "لا تقتل" (خروج 13:20؛ تثنية 17:5).

2. رفض حمل الأسلحة خضوعًا لسلطة الرّب يسوع الذي أمرنا أن لا نحمل السيف.

3. رفضًا لمخالفة مبادئ المسيحية التي تدعو إلى المحبة واللطف وطول الأناة، والإبتعاد عن الكراهية والإنتقام والحسد.

4. رفضًا للقَسم العسكري بالطاعة دون شروط، لأن هذا القَسم يعطي الولاء للدولة ولسلطة قيصر أولوية فوق الولاء للرب يسوع المسيح.

5. رفضًا لطاعة الحياة العسكرية التي تعني ممارسة العنف، والتعذيب، وصلب العدو، ونهب ممتلكات الأعداء، والتجسس على الآخرين والوشاية بهم. كذلك لأن حياة الجندي كانت تشتمل على طقوسٍ وثنية مثل عبادة الإمبراطور أو القيصر، وممارسات غير لائقة كثيرة. كذلك رفض المسيحيون المشاركة بالثورات المسلحة ضد روما سواء خلال الثورة الأولى التي قام بها اليهود ضد الرومان بين سنتي 66-73م، أو في الثورة الثانية من سنة 132-135م.

عندما ازدادت ثروة وقوة الكنيسة، وخصوصًا بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية، ودخول عدد ضخم من الناس في المسيحية بدون دراسة حقيقية للإنجيل، وبدون توبة، وبدون اختبار الولادة الروحية الثانية من فوق. أي عندما أصبح عدد ضخم من الناس مسيحيين بالإسم. بعد هذه الأمور، تغير موقف قيادة الكنيسة من الحروب والإنخراط في الجيش، بحجة مساعدة الإمبراطور الروماني المسيحي في حروبه ضد الوثنيين. وهذا التهاون أدى إلى دخول المسيحيين شيئًا فشيئًا في جيش الإمبراطورية الرومانية، حتى جاء عام 416م حين صدر مرسوم من قيصر روما بمنع أي شخص أن يكون جنديًا في جيش الإمبراطورية الرومانية إلا إذا كان مسيحيًا. وهكذا أصبح المسيحي جنديًا في جيش الإمبراطوريّة الرّومانية "المقدّسة"، وبهذا توقف عن مسيحيته الحقيقية.

رغم التغيير السلبي في موقف قيادة الكنيسة تجاه الإنخراط في الجيش، إلا أنه وجدت مجموعات مسيحية كثيرة جدًا، وفي أماكن مختلفة في العالم، تعارض أن يكون المسيحي جنديًا في أي جيش أو أن يشارك في أية حرب. وهؤلاء الناس أصروا على سماع صوت الرّب في الإنجيل المقدس، وعدم سماع تعاليم أشخاص أو تقاليد دخيلة على المسيحية تسمح وتشجع المسيحي على الإنخراط بالجيش، بخلاف تعاليم الرّب في الكتاب المقدس.

صاغ توما الإكويني Thomas Aquinasفي القرن الثالث عشر (1225- 1274) اصطلاح "الحرب العادلة"، ووضع أسس وشروط محددة لهذه الحرب "العادلة" أو الحرب "المقدسة". وللأسف الشّديد فإن هذه الشروط لا تنطبق على أي حرب في التاريخ، وبالتالي لا يوجد شيء اسمه حرب عادلة أو Just War. وقد سبق اللاهوتي الكبير أغسطينوس(354-430) أسقف هيبو Hippo في القرن الرابع والخامس الميلادي توما الإكويني في تبرير انخراط المسيحيين في جيش روما. أي أنَّ اللاهوتي القديس أغسطينوس واللاهوتي القديس توما الإكويني يعتبران المسئولان الرئيسيان عن وضع نظرية الحرب العادلة، وهذه النّظرية في الواقع لا تبرر الحروب، ولكنها تعمل على وضع الحروب تحت حكم العدل والقانون، وحتى على انهائها.

أسس أو شروط الحرب المقدّسة كما وضعها كل من اغسطينوس وتوما الإكويني:

1. يجب خوض الحرب فقط من أجل الرد على ضرر محدد وكبير بسبب عدوان خارجي.

2. يجب أن يكون دافع الحرب هو الدفاع عن الخير ونشره، والابتعاد عن الشر.

3. أن يكون الهدف الأسمى للحرب هو إحلال السلام.

4. لا يمكن تبرير الحروب بدواعي الانتقام والثورات والتمرد والرغبة في إيذاء الآخرين أو السيطرة أو الاستغلال.

5. يجب العمل بكل الوسائل على إنهاء الصراع الحربي بأسرع وقت.

6. يجب العمل قدر المستطاع على عدم سفك الدم، خاصة عند انعدام الأمل بالإنتصار.

7. يجب أن تعلن سلطة شرعية وقانونية الحرب. ويجب أن يلجأ المواطنون والمجموعات البشرية المدنية إلى حكوماتهم لتحقق العدل، وعدم خوض الحروب.

8. يجب أن لا تسبب الحروب شرًا أكثر من الشر الذي تحاول القضاء عليه.

9. يجب عدم إلحاق أي ضرر أو أذى بالناس المدنيين الذين لا يشاركون بالحرب.

10. يجب معاملة الأسرى والسجناء وشعوب الأراضي المحتلة بالعدل.

نستنتج من شروط وأسس نظرية الحرب العادلة أو الحرب المقدّسة الأمور التّالية:

1. سبب عادل: إدانة كل شكل من أشكال العدوان. فقط الحروب الدفاعية هي حروب شرعية.

2. دوافع عادلة: لتحقيق السلام، ليس للإنتقام، وليس لمكاسب اقتصادية وليست للسيطرة وفرض عقيدة أو مبدأ أو دين. 

3. آخر وسيلة أو ملاذ: بعد فشل المحادثات والمسايرة والتنازل. 

4. إعلان رسمي: الحكومة هي التي تعلن الحرب، وليس أفراد عاديّون.

5. أغراض محددة: إذا كان الهدف هو السلام، فيجب عدم فرض استسلام غير مشروط على الناس، ويجب عدم تدمير الممتلكات.

6. وسائل مناسبة: يجب استخدام السلاح بشكل محدد للرد على العدوان، ومنع أي اعتداء مستقبلي. الحرب الشاملة وغير المحددة ليست حربًا عادلة ويجب العمل على ومنع حدوثها. 

7. حماية المدنيين وأسرى الحرب من الأذى والقتل.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا