ثورة هاجر (2)

لا نعرف كيف أذلت سارة هاجر، لكن الإِذلال كان قاسيا حتى هربت هاجر من البيت، وسارت في طريق يقود إلى مصر. لعلها أرادت أن ترجع إلى بلادها. ولما تعبت من السير جلست على عين ماء في الصحراء
07 نوفمبر 2019 - 21:43 بتوقيت القدس

تكوين 16: 1 - 16

نرجع لسؤالنا الذي طرحناه في المقال الأول بالنسبة لحديثنا عن اسماعيل، فيبدو أن اسماعيل، الذي ولد وفعلا كان إنسانا وحشيا، غير مذنب في وحشيته، فهذا حكم الله عليه قبل ولادته، فليس له خيار آخر غير الوحشية. تبدو هذه الصورة صعبة للغاية والأمر غير منصف بتاتا.

قبل أن نحاول الاجابة على سؤالنا لا بد من التذكير أن الله بارك هاجر عندما قال لها "تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة"، تماما كما بارك ابراهيم أن نسله سيكون كرمل البحر من الكثرة. نعم - صدر حكم الوحشية على إسماعيل، بالضبط كما صدر حكم الموت على كل البشر بسبب الخطية التي سارت في عروق الإنسان منذ سقوط آدم.

في الطريق للإجابة على سؤالنا نلاحظ في القطعة المقتبسة في المقال الأول قول سارة لإبراهيم زوجها: "ظلمي عليك"، فسارة تلوم زوجها على فعلته وكيف استجاب لمطلبها، فألقت الظلم الذي أصابها على ابراهيم، وكأنها تقول له إنك ظالم كونك سمعت لكلامي وتزوجت بهاجر. وعندها، وكمحاولة لرد الظلم عن سارة يعطيها ابراهيم الحق ان تعمل بجاريتها "ما يحسن في عينيها"، فما كان من سارة الا ان أذلت هاجر وأهانتها وهمشتها وصاحت بوجهها وشغّلتها اشغالا شاقة وحقرتها وما الى ذلك .

يا لبشاعة تنكيل سارة وظلمها لهاجر، ولفترة طويلة، فنقرأ كيف أرجع الله هاجر إلى سارة، على الرغم من الظلم والحياة المجحفة التي عانتها هاجر على طول فترة حملها ثم ولادتها ثم فترة نمو اسماعيل وكيف كان يلعب مع اسحق بعد ولادته، لغاية بلوغ إسماعيل جيل 13 عاما، فما كان من سارة الا ان طردت هاجر وابنها للمرة الثانية، معتبرة أن ابنها افضل من ابن هاجر كون الاخير وحشي وكونه "ابن الجارية" (تك 21: 9-13).

من هنا، فإعلان الله وإنباؤه بوحشية إسماعيل قبل ولادته ما هو إلا نتيجة علم الله المسبق ان إسماعيل سوف يكون وحشيا بسبب ما عانى وقاسى، هو وامه هاجر، من تنكيل وإذلال من سارة، السيدة، وللأسف بدعم من ابراهيم، الذي أطلق العنان واعطى الضوء الاخضر لسارة لتفعل بهاجر "كما يحسن في عينيها"، "فأذلتها ساراي".

ان وحشية إسماعيل ما هي إلا حصيلة التنكيل والإذلال والاستعباد المهين الذي واجهه وأمه من سارة، ونقرأ في الإصحاح 21 كيف طلبت سارة من ابراهيم أن يطرد "الجارية وابنها"، لأسباب مادية ارضية، وفي هذه المرة لم يجبها ابراهيم كالمرة الاولى، بل "قبح الكلام جدا في عيني ابراهيم لسبب ابنه" (21: 11).

ان ولادة إسماعيل كانت حصيلة عدم، أو قلة، إيمان ابراهيم بوعد الرب، انه "بإسحق يدعى لك نسل" (تك 21: 12)، وبدل أن يتوب إبراهيم وسارة عن عدم الإيمان وبالتالي العصيان، ما كان منهما إلا أن عالجا المشكلة بمشكلة أكبر بتعاملهما السيء والمشين لهاجر وابنها، هو هو المسبب ل"وحشية" إسماعيل.   

لقد أوصى الله بالعبيد وعدم ظلمهم والتعامل معهم بالمحبة والرفق، مذكرا شعبه في القديم قائلا: "واذكر انك كنت عبدا في مصر" (تث 24: 18، 22)، وهناك الكثير من الآيات التي تدعم ذلك في العهدين القديم والجديد، نذكر منها مثلا ما ورد في سفر التثنية، قول الله لموسى: "لا تظلم اجيرا مسكينا وفقيرا من اخوتك او من الغرباء الذين في ارضك في ابوابك" (تث 24: 14)، وفي نفس السفر يوصيهم بالعبد الذي يطلب الحماية "عندك يقيم ... لا تظلمه" (تث 23: 15-16)، وفي العيد "...تفرح امام الرب الهك انت وابنك وابنتك وعبدك وامتك واللاوي الذي في ابوابك والغريب واليتيم والارملة الذين في وسطك في المكان الذي يختاره الرب الهك ليحل اسمه فيه12  وتذكر انك كنت عبدا في مصر وتحفظ وتعمل هذه الفرائض " (تث 16: 11-12). كذلك يوصي بولس الرسول في رسالته الى أهل كولوسي قائلا: "ايها السادة، قدموا للعبيد العدل والمساواة، عالمين ان لكم انتم ايضا سيدا في السماوات." (4: 1). 

نلاحظ في أيامنا ثورات كثيرة على الظلم والاستعباد والعنف الموجّه ضد الطبقات المهمشة والفقيرة من مجتمعات ودول كثيرة في أنحاء المعمورة، والتي هي حصيلة الظلم والجهل الذي تعاني منه هذه الطبقات، واليوم نحن نعلم أن الخطية هي السبب الرئيس لهذا الاستعباد والظلم والاستبداد من الانسان لأخيه الانسان أو الدولة تجاه الأخرى، ولذلك لا يجوز أن نقسم المجتمعات أو الشعوب ب-"حضاري" أو "متوحش"، ولا يجوز التعامل معهم بهذه المقاييس بتاتا، لأن هذا سيخلق ثورات أصعب قد تودي بحياتهم وحياتنا.

المسيح يدعونا في هذه الأيام العسيرة أن نتعامل مع هذه الثورات بعين المحبة والعدل والصلاة ومد يد العون لهؤلاء في كل فرصة متاحة بشتى الصور، عالمين أن الخطية هي المسبب الأول والأخير لكل عبودية، وأن الحرية التي ينبغي نشرها هي فقط في المسيح.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا
مقالات تابعة للسلسلة نفسها: